تخيل نفسك في غرفة مظلمة، لا ترى شيئًا، تتخبط يمينًا وشمالًا، تعثر بأثاث تعرفه جيدًا ولكن الظلام يحجب عنك رؤيته. ما الذي تحتاجه في هذه اللحظة؟ بلا شك، نور يضيء لك الطريق، مصباح يهديك، أو حتى شمعة صغيرة تبدد الظلام وتمنعك من السقوط.
وهكذا هي الحياة في غياب نور الهداية.
من رحمة الله بنا أن أنزل علينا القرآن الكريم نورًا وهاديًا، ليخرجنا من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الحق والإيمان. أنزل القرآن ليكون بصيرة لنا في كل زمان ومكان، كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
في خضم الفتن والابتلاءات التي تواجهنا في هذه الحياة، نلجأ إلى كتاب ربنا، نلتمس نوره، ونهتدي بهديه. وعندما نتأمل سورة الكهف، نجدها تضيء لنا أنوارًا عظيمة، تكشف لنا عن قيم وحقائق غائبة عنا بسبب ظلمات الفتن. تهيئ لنا من أمرنا رشدًا، وتنشر علينا من رحمات ربنا.
لماذا سورة الكهف؟
حثنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم على قراءة سورة الكهف أسبوعيًا، لما لها من فضل عظيم، كما ورد في الحديث الذي صححه الألباني: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين".
فلماذا نعرض عن هذا النور الساطع وهو بين أيدينا؟ لماذا نتجاهل هذا السراج المنير فلا نستضيء به؟
حصن من الفتن:
سورة الكهف ليست مجرد نور، بل هي حصن حصين يحمينا من الفتن المحيطة بنا. فمن حفظ عشر آيات من أولها عصم من أعظم فتنة ستقع على الأرض، فتنة المسيح الدجال، كما ورد في صحيح مسلم: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال".
فكما أنها تعصم من دجل الدجال الذي يزين الباطل في صورة الحق، فهي تعصمنا من فتن تموج كموج البحر، فتن تصيب الحليم بالحيرة.
هيا بنا نرتشف من عذب وصاياها، ونستنير بنورها، لنضيء أركان قلوبنا بأنوار الكهف، ولننير أرواحنا من كلمات ربنا التي لا تنفد.
نظرة متعمقة في فتن سورة الكهف
عندما نتدبر سورة الكهف، نجدها تبصرنا بأنواع عديدة من الفتن، منها:
- فتن السراء: وتشمل فتنة زينة الحياة الدنيا بشكل عام.
- فتن الضراء: وهي الابتلاءات والمصائب التي تصيب الإنسان.
وقد فصلت لنا السورة بعض هذه الفتن في أربع قصص متتالية:
1. فتنة الدين: قصة فتية الكهف
- القصة: فتية آمنوا بالله وفروا بدينهم من فتنة قومهم الذين كانوا يريدون إرجاعهم إلى ملتهم.
- الدرس: الثبات على الدين أهم من أي شيء آخر، حتى لو كلف الأمر التضحية بالراحة والنعيم.
2. فتنة المال والولد والأتباع: قصة صاحب الجنتين
- القصة: رجل أعجب بجنته وماله، واغتر بهما حتى ظن أنها لا تبيد، وكفر بالله.
- الدرس: المال والولد زينة الحياة الدنيا، ولكنها زائلة، فلا تغتر بها وتنسى الآخرة.
3. فتنة العلم: قصة سيدنا موسى والخضر
- القصة: سيدنا موسى يتعلم من الخضر، ويتواضع لمن هو أعلم منه.
- الدرس: العلم نعمة من الله، فلا تتكبر به على الآخرين، وتواضع لمن هو أعلم منك.
4. فتنة الملك والقوة والسلطان: قصة ذي القرنين
- القصة: ملك صالح سخر الله له الملك والقوة لخدمة الضعفاء وإعمار الأرض.
- الدرس: القوة والسلطان نعمة من الله، فاستخدمها في الخير ولا تغتر بها.
5. فتنة إبليس: العدو الأزلي لبني آدم
- القصة: تحذير من عداوة إبليس لبني آدم وإغوائه لهم.
- الدرس: إبليس هو أصل كل فتنة، فاحذر خطواته وتزيينه للباطل.
الحياة الدنيا في سورة الكهف: اختبار وزينة زائلة
تحذرنا سورة الكهف من فتنة الدنيا في مواضع عديدة، حتى لا نغتر بها وننسى الباقيات الصالحات.
- الزينة والاختبار: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]. كل ما على الأرض من أموال ومساكن وأولاد هو مجرد زينة، واختبار لنا، ليرى الله أينا أحسن عملًا.
- الزينة الزائلة: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8]. ستفنى هذه الزينة وتكون ترابًا يوم القيامة.
- الصحبة الصالحة: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28]. اصبر على صحبة المؤمنين ولا تجعل زينة الدنيا تشغلك عنهم.
- مثل الحياة الدنيا: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45]. مثل الدنيا كمطر ينزل على الأرض فتزدهر، ثم تجف وتموت سريعًا.
- الباقيات الصالحات: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46]. المال والبنون زينة الدنيا، ولكن الباقيات الصالحات خير وأبقى.
دروس وعبر من قصص الابتلاء في سورة الكهف
تقدم لنا القصص الثلاث التي كانت بين سيدنا موسى والخضر دروسًا قيمة في التعامل مع الابتلاءات:
- الخير في الشر: الابتلاء قد يكون ظاهره شرًا، ولكن عاقبته خير للدين.
- البلاء الصغير: قد يكون نجاة من بلاء أكبر منه.
- التعويض الإلهي: الله قد يبدلنا ما هو خير مما أخذ منا.
- الابتلاء على قدر الدين: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
- المصيبة في الدين: هي أعظم فتنة، والحفاظ على الدين أولى من أي مصلحة.
- تأخر الرزق: قد يكون لحكمة، وثق بأن الله يعطي بقدر معلوم وفي وقت معلوم.
- تسليم الأمر لله: هو أحكم الحاكمين، وله الحكمة البالغة.
وسائل عملية للوقاية من الفتن في سورة الكهف
- **التم
اترك تعليقاً