مقدمة: أصوات من قلب الجحيم
في أتون الحرب الدائرة في غزة، يقف المسعفون في الخطوط الأمامية، شهودًا على فظائع لا تُوصف، ومنقذين في ظروف مستحيلة. يومياتهم ليست مجرد سجل للأحداث، بل هي صرخة مدوية تكشف عن حجم المعاناة الإنسانية في ظل القصف والحصار. هذا المقال يسلط الضوء على قصص هؤلاء الأبطال المجهولين، الذين يواجهون الموت يوميًا لإنقاذ الأرواح، ويحملون في ذاكرتهم صورًا لن تمحى.
عندما يصبح الدخان دليلًا: البحث عن الضحايا في غياب الاتصالات
في عالم مزقته الحرب، حيث انقطعت شبكات الاتصال، وأصبح الدخان المتصاعد هو الدليل الوحيد، يروي المسعف مؤمن المشهراوي كيف كان ينطلق بسيارة الإسعاف، متتبعًا أعمدة الدخان المتصاعدة من القصف. ذات يوم، قاده الدخان إلى مركز إيواء داخل مدرسة في حي التفاح، ليجد نفسه أمام مشهد مروع: أشلاء متناثرة، جثث ممزقة، وصراخ يملأ المكان.
- مؤمن المشهراوي يصف المشهد قائلاً: "سيارة الإسعاف مصممة لحمل مصاب واحد، لكنني كنت أضع 4 أو 5، وأعود للمكان مرات ومرات، الأولوية للجرحى أولا، ثم الشهداء".
سوق النفق: من نبض الحياة إلى بحر من الدماء
بعد أيام قليلة، استجاب مؤمن وزملائه لنداء استغاثة من سوق شارع النفق، الذي تحول من مركز نابض بالحياة إلى مسرح لمجزرة مروعة. جثث مرمية على الأرصفة، مبتورو الأطراف، فوضى عارمة، والناس يحملون المصابين على أكتافهم في ظل نقص سيارات الإسعاف.
- مؤمن يتذكر: "عائلة تجلس أمام منزلها، تتسامر، تطولها غارة من طائرة، فتختفي الضحكات إلى الأبد. الجميع استشهدوا، وواحد فقط نجا، لكنه كان جريحا وقدماه تنزفان."
في ظل نقص المعدات الطبية بسبب الحصار، اضطر مؤمن لاستخدام قطعة قماش بالية لوقف نزيف الشاب، لينقذ حياته. وبعد شهور، التقى به مرة أخرى، حيًا ولكنه بلا قدمين، شاهدًا على وحشية الحرب.
مجزرة المستشفى المعمداني: أهوال القيامة تتجسد على الأرض
يصف المسعف خالد أبو نعمة مجزرة المستشفى المعمداني بأنها الأكثر بشاعة في ذاكرته. ليلة القصف، وصل خالد إلى المستشفى الذي كان يؤوي آلاف النازحين، ليجد المكان أشبه بمشهد من أهوال القيامة: الناس تهرب وتصرخ، تحمل أبناءها قتلى بين ذراعيها، أطفال محروقون، وأشلاء متناثرة في كل مكان.
- خالد يصف المشهد المروع: "الناس تهرب وتصرخ، تحمل أبناءها قتلى بين ذراعيها، وأطفال محروقون، أشلاء متناثرة، جثث بالمئات."
في كل رحلة، كان خالد يحمل 5 شهداء أو جرحى، والباب الخلفي لسيارته مفتوحًا بسبب الازدحام. وفي صباح اليوم التالي، عاد ليبحث تحت الأنقاض عن المزيد من الضحايا، ليجد جثثًا متفحمة وصمتًا ثقيلاً يخيم على المكان.
ثمن الإنقاذ: رصاصة في الرقبة ومعاناة مستمرة
يدرك خالد خطورة عمله، الذي قد يكلفه حياته في أي لحظة. وقد فقد العديد من زملائه، الذين قتلهم القصف الإسرائيلي. وفي أحد الأيام، كاد خالد أن ينضم إلى قائمة الضحايا، عندما أصيب برصاصة في رقبته أثناء محاولته إنقاذ زملائه المحاصرين.
- خالد يروي تجربته: "كنت أنادي كي يسعفوه، لكن الرصاص لم يتوقف، فنهضت.. وتحاملت على نفسي، وركضت، والدم يتدفق، والرصاص يتطاير، ونجوت بأعجوبة."
ورغم المخاطر، لا يحصل خالد وزملاؤه على رواتب منتظمة، بل على مكافآت بسيطة كل بضعة أشهر، بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة في غزة.
الطفلة النائمة: حين تتجسد المأساة في صورة بريئة
يتذكر خالد مشهدًا آخر لا ينساه: طفلة صغيرة عمرها 3 سنوات، كانت نائمة في خيمة بجوار موقع قصف، اخترقت شظية جسدها الصغير وماتت في صمت.
- خالد يعبر عن ألمه: "حين رأيتها.. تخيلت أنها طفلتي."
العلاج المفقود: الموت يتربص بالجرحى في المستشفيات
يصف المسعف "محمد" (اسم مستعار) كيف كان ينقل الجرحى إلى المستشفيات، لكنه يعلم أنهم لن يعيشوا بسبب نقص العلاج والأدوية، نتيجة لاستهداف المنظومة الصحية في شمال غزة.
- محمد يروي تجربته المرة: "في المستشفى المعمداني، كنت أترك المصابين على الأرض، فلا أسرّة كافية ولا علاج، وأعود في الصباح لأجدهم ممددين داخل أكفان بيضاء أمام كنيسة المستشفى."
إصابات بسيطة، مثل شظايا صغيرة في البطن أو الصدر، كانت تتسبب في نزيف قاتل بسبب غياب غرف العمليات والأجهزة الطبية المتخصصة.
مجازر العائلات: صور لا تفارق الذاكرة
يتذكر محمد حادثة مروعة، عندما توجه لإنقاذ أسرة تعرضت شقتها للقصف، ليجد أن قوة الانفجار قذفت بهم إلى سطح منزل مجاور، حيث اشتعلت النار في أجسادهم ولم ينجُ أحد.
وفي حادثة أخرى، استجاب محمد وزملائه لنداء استغاثة من مدرسة تؤوي نازحين تعرضت للقصف. بدأوا يحفرون بأيديهم العارية لإنقاذ شاب عالق تحت حائط، رغم الإنذار بقصف وشيك للمدرسة.
- محمد يصف اللحظات الأخيرة: "رفضنا المغادرة، استمرينا في الحفر، وسحبنا الشاب في اللحظة الأخيرة، وبعد دقيقتين فقط من خروجهم، سقط الصاروخ."
أكثر ما لم يستطع محمد اعتياده هو مجازر العائلات، أُسر كاملة تختفي. ذات مرة، وجدوا طفلا بعمر 3 سنوات مشوّه الوجه، نجا وحده من مجزرة قضت على 3 عائلات، ولم يتعرف عليه أحد من أقاربه، فكفلته ممرضة.
خاتمة: ذاكرة مثقلة بالوجع
يختتم محمد كلامه بنبرة يملؤها الألم: "نحن لا ننسى.. ذاكرة المسعف مثقلة بكل ما رآه." قصص هؤلاء المسعفين هي شهادة حية على فظائع الحرب في غزة، وتذكير دائم بالثمن الباهظ الذي يدفعه المدنيون الأبرياء. يجب أن تُسمع أصواتهم، وأن تُروى قصصهم، لعلها تساهم في وضع حد لهذه المعاناة.
اترك تعليقاً