مبدأ التخصص في الإسلام: سبيل النجاح والازدهار
تُعدّ خطبة الجمعة فرصةً عظيمةً للتأمل في مبادئ ديننا الحنيف، وكيفية تطبيقها في حياتنا اليومية. اليوم سنتناول مبدأً إسلاميًا هامًا، ألا وهو مبدأ التخصص، وكيف يُسهم في بناء مجتمع قويٍّ ومتماسك.
خلق الله الناس مختلفين
خلق الله -سبحانه وتعالى- الناس متفاوتين في قدراتهم ومواهبهم، فمنهم القوي والضعيف، والذكي والأقل ذكاءً، والشجاع والجبان، والمتعلم والأمي. وهذه التفاوتات ليست عيبًا، بل هي سنةٌ من سنن الله في خلقه، فهي تُثري المجتمع وتُسهم في تنوعه وازدهاره. وقد بيّن الإسلام ذلك بوضوح، مُؤكّدًا على ضرورة استغلال هذه القدرات المختلفة في بناء مجتمع متكامل.
التخصص: أساس النجاح المجتمعي
يدعو الإسلام إلى التخصص في الأعمال، بحيث يقوم كل فرد بما يُحسن ويُتقن. فالتخصص يعني اقتصار الفرد أو الجماعة على فنٍّ أو عملٍ معين، مما يُعزز الكفاءة والإنتاجية، ويُقلل من الفوضى والاختلاط. وهذا المبدأ متجسّدٌ في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة.
الدليل من القرآن الكريم:
-
سورة التوبة، الآية 122: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" هذه الآية تُشير إلى ضرورة التخصص في طلب العلم ونشر الدين.
- سورة النساء، الآية 59: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا" تُبرز هذه الآية أهمية الرجوع إلى أهل الاختصاص في حلّ النزاعات.
الدليل من السنة النبوية:
-
حديث شريف: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" (رواه البخاري). هذا الحديث يدعو إلى العمل بما يتناسب مع قدرات كل فرد.
-
حديث شريف: "لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها" (سورة البقرة، الآية 286). يؤكد هذا الحديث على عدم تحميل الفرد ما لا يطيق.
- حديث شريف: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (سورة الأنبياء، الآية 7). يحثّ هذا الحديث على السؤال والاستفسار من أهل العلم والخبرة.
أمثلة من حياة الصحابة:
يُظهر لنا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام تطبيقًا عمليًا لمبدأ التخصص. فقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم كلٌّ منهم لما يمتاز به من قدرات، منهم:
- بلال بن رباح: لصوته الجهور في الأذان.
- مصعب بن عمير: لِدبلوماسيته وذكائه في مهمة الدعوة إلى المدينة المنورة.
- زيد بن ثابت: لِبراعته في اللغة والكتابة، فكان له دورٌ بارزٌ في جمع القرآن الكريم.
- خالد بن الوليد: لقوته وشجاعته في القيادة العسكرية.
- حسان بن ثابت: لِبراعته في الشعر.
- علي بن أبي طالب: لِحكمته وقدرته على الفصل بين الناس.
- معاذ بن جبل: لفقهه العميق في الأحكام الشرعية.
حتى في تولية المناصب، كان النبي صلى الله عليه وسلم يُراعي قدرات الأفراد، كما في قصة تعيين أبي ذر الغفاري، حيث أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح لتولي منصب القضاء بسبب قوته.
نتائج تطبيق مبدأ التخصص:
إنّ تطبيق مبدأ التخصص في المجتمع الإسلامي يُؤدي إلى:
- زيادة الإنتاجية والكفاءة.
- تقليل الفوضى والاختلاط.
- تحقيق التقدم والازدهار.
- تعزيز التعاون والتنسيق.
- رفع مستوى الجودة في العمل.
- تشجيع الإبداع والابتكار.
أهمية الأمانة والمسؤولية:
يُحذّر الإسلام من إعطاء المسؤوليات لمن لا يستحقّها، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة". فوضع الشخص في مكان لا يتناسب مع قدراته يُؤدي إلى الفساد والخلل في المجتمع. قصة عمر بن الخطاب وسعيد بن عامر خير مثال على ذلك، حيث أظهر عمر تقديره للكفاءة والاخلاص.
خاتمة:
إنّ مبدأ التخصص هو مبدأ إسلاميٌّ عظيمٌ يُسهم في بناء مجتمع قويٍّ ومتماسك. علينا جميعًا أن نعمل بما نُتقن ونُحسن، وأن نُقدّر قدرات الآخرين، وأن نُسهم في بناء مجتمعٍ قائمٍ على الكفاءة والعدل. فلنتذكر دائمًا قول الله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (سورة النحل، الآية 90).
اترك تعليقاً