مقدمة: الإسلام وأخلاق التعامل الرفيعة
لقد جاء الإسلام دينًا شاملاً، لا يقتصر على العبادات الظاهرة، بل يمتد ليشمل تهذيب السلوك والأخلاق، وتوجيه المسلم نحو أرقى صور التعامل مع الآخرين. إن حسن الخلق في الإسلام ليس مجرد فضيلة، بل هو عبادة عظيمة، يترتب عليها الأجر الجزيل والثواب العظيم من الله سبحانه وتعالى. ومن أهم جوانب هذا التعامل الحسن، مراعاة مشاعر وأحاسيس من حولنا، وتجنب إيذائهم بأي شكل من الأشكال، سواء بالقول أو الفعل أو الإشارة.
الهدف الأسمى من هذه التوجيهات النبوية هو بناء مجتمع مسلم متحاب ومتراحم، يسوده الود والألفة، وتتعمق فيه أواصر الترابط والتعاون والتكافل، ويعم الخير والصلاح. فمراعاة الشعور تعني إدراك أن للآخرين أحاسيس ومشاعر يجب احترامها وتقديرها، وعدم المساس بها بأي نوع من الأذى.
مراعاة المشاعر في جوانب الحياة المختلفة
1. في نطاق الأسرة: الوالدين نموذجًا
يبدأ تطبيق هذا الخلق الرفيع من البيت، وخاصة مع الوالدين، حيث أمرنا الله تعالى بالإحسان إليهما، وتجنب أي قول أو فعل قد يجرح مشاعرهما، حتى كلمة "أف" التي تدل على التضجر.
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23-24]
إن هذا النهي عن كلمة "أف" يوضح مدى حساسية الإسلام لمشاعر الوالدين، ويدعونا إلى التعامل معهما بلين ولطف، وتجنب كل ما قد يزعجهما أو يؤذيهما.
2. مع الجيران: مشاركة الفرح والتخفيف عن الحاجة
لم يغفل الإسلام عن أهمية مراعاة مشاعر الجيران، حتى في الأمور البسيطة، مثل رائحة الطعام. فربما يكون جارك محتاجًا، ورائحة طعامك تثير شهية أطفاله، ولا يملكون القدرة على الحصول عليه. لذلك، حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشاركة الجيران طعامنا، وإدخال السرور على قلوبهم.
«إذا طبخت قدرًا فكثِّر مرقتها، فإنَّه أوسع للأهل والجيران»
3. عند الزواج: احترام الحياء والرضا
عند الزواج، يجب مراعاة شعور البنت، خاصة البكر، واستئذانها قبل عقد القران. فسكوتها دليل على رضاها، احترامًا لحياءها.
«لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن»
4. مع المرضى والضعفاء: التخفيف والتيسير
يولي الإسلام اهتمامًا خاصًا بمشاعر المرضى والضعفاء وذوي الحاجات، ويدعونا إلى التخفيف عنهم، والتيسير عليهم. فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إطالة الصلاة إذا كان هناك مريض أو ضعيف في الصف، وأمر الأئمة بالتخفيف على المصلين، مراعاة لظروفهم.
«أُمَّ قومَكَ، فمنْ أمَّ قومَه فليُخَفَّفْ فإن فيهم الكبيرَ وإن فيهم المريضَ وإن فيهم الضعيفَ وإن فيهم ذا الحاجة»
5. في التعامل اليومي: تجنب التناجي والإحراج
نهى الإسلام عن التناجي بين اثنين دون الثالث، مراعاة لشعوره، وحتى لا يظن أن الحديث يدور حوله. كما نهى عن التحدث بلغة أجنبية لا يفهمها الحاضرون، تجنبًا لإحراجهم.
«إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجَ اثنانِ دون الثالث»
6. عند النصيحة: السرية واللطف
عند تقديم النصيحة، يجب أن تكون سرية ولطيفة، تهدف إلى التصحيح لا التجريح. فالنصيحة العلنية فضيحة، والنصيحة السرية زينة.
من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه.
7. مع الأموات: الكف عن السب
نهى الإسلام عن سب الأموات، مراعاة لمشاعر الأحياء من أقاربهم، وتجنبًا لإيذائهم.
«لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء»
8. مع ذوي العاهات: تجنب النظرات المؤذية
يجب تجنب إدامة النظر إلى ذوي العاهات والأمراض، حتى لا نحرجهم أو نؤذيهم.
«لا تديموا النظر إلى المجذومين»
9. مع الصغير والكبير: الرحمة والتوقير
يجب مراعاة مشاعر الصغير برحمته والشفقة عليه، ومراعاة مشاعر الكبير بتوقيره واحترامه.
«ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا»
10. مع السائل: الرد بلطف أو العطاء بغير من
عند التعامل مع السائل، يجب الرد عليه بلطف إن لم نتمكن من مساعدته، أو العطاء بغير من أو أذى.
«ثلاثة لا يُكَلّمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إِليهم، ولا يُزَكِّيهم، ولهم عذاب ألِيم: الْمُسْبِلُ والمَنَّانُ والمُنْفِقُ سلعته بالحلف الكاذب»
مراعاة المشاعر تتعدى الإنسان إلى الحيوان
لقد تعدى الإسلام بتوجيهاته إلى مراعاة مشاعر الحيوان والطير والبهيمة، فنهى عن تعذيب الحيوانات، وأمر بالإحسان إليها، حتى عند الذبح.
«من فجع هذه بولدها؟، ردوا ولدها إليها»
«لعن الله الذي وسمه»
خاتمة: مجتمع متراحم وقلوب متآلفة
إن مراعاة مشاعر الآخرين ليست مجرد سلوك حسن، بل هي أساس لبناء مجتمع متراحم ومتماسك، تسوده المحبة والألفة. فلنحرص على إيقاظ الأحاسيس والمشاعر في نفوسنا، ونشر المحبة والود في مجتمعاتنا، لنكون قدوة حسنة لغيرنا، ونساهم في بناء عالم أفضل.
اترك تعليقاً