معصية السر: كيف تحمي نفسك من رقابة الله في الخلوات؟


مقدمة: رقابة الله في السر والعلن

إن معرفة الله حق المعرفة تدفع المؤمن لمراقبته في كل لحظة، سواء في السر أو العلن، في الخفاء أو الظهور. هذه المعرفة العميقة تولد خشية حقيقية لله، تجعل العبد حريصًا على الامتثال لأوامره وتجنب نواهيه. وإذا ما أخطأ وزلت به القدم، سارع إلى التوبة والاستغفار، يملؤه الخوف من ذنبه والرجاء في عفو ربه. كما قال تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18]. وهذا ما نلمسه في الدعاء النبوي المأثور: «اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة».

خطر معصية السر: غفلة عن رقابة الله

إن معصية السر تُعد من أخطر أنواع المعاصي، لأنها تدل على ضعف الإيمان وغفلة القلب عن نظر الله تعالى وإحاطته بكل شيء. فالله سبحانه وتعالى مطلع على العبد في خلوته، ولا يمكن لأحد أن يغيب عن علمه أو يهرب من رقابته: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

  • التشبه بالمنافقين: من يقع في معاصي الخلوات يشبه المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108].
  • ابن كثير وتفسير الآية: يوضح ابن كثير أن هذه الآية توبيخ للمنافقين الذين يخفون قبائحهم عن الناس خوفًا من الإنكار، بينما يجاهرون بها أمام الله الذي يعلم السرائر وما تخفيه الضمائر.

خشية الله في السر: دليل قوة الإيمان

إن الامتناع عن معصية السر دليل على قوة الإيمان ومجاهدة النفس والهوى. وقد ورد في الحديث الصحيح ذكر أحد السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة: «ورجلٌ دَعَتْهُ امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله». هذا الرجل تغلب على شهوته وإغراء المنصب والجمال، ولم يردعه إلا خوفه من الله في السر.

  • ابن رجب والورع في الخلوة: يقول ابن رجب: "وخشية الله تعالى في السر إنما تصدر عن قوة إيمان، ومجاهدة للنفس والهوى، فإن الهوى يدعو في الخلوة إلى المعاصي؛ ولهذا قيل: إن من أعز الأشياء الورعَ في الخلوة".

الإحسان: أعلى مراتب العبادة

إن الذي يمنع العبد من معصية السر هو مخافة الله تعالى، ومن بلغ هذه المنزلة فقد حقق الإحسان، وهو أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإن الله تعالى يراه.

  • إبراهيم بن سفيان والخوف من الله: يقول إبراهيم بن سفيان: "إذا سكن الخوفُ القلوبَ، أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها".

تذكير السلف بأهمية مراقبة الله في الخلوات

كان السلف الصالح يحرصون على تذكير الناس بأهمية مراقبة الله في الخلوات، ويحثونهم على اتقاء معصيته في السر.

  • وهيب بن الورد: قال رجل لوهيب بن الورد: "عِظني، قال: اتقِ أن يكون الله تعالى أهون الناظرين إليك".
  • الجنيد: سُئل الجنيد: بِمَ يُستعان على غض البصر؟ قال: "بعلمك أن نظر الله تعالى إليك أسبقُ من نظرك إلى ما تنظره".
  • أبو سليمان الداراني: قال أبو سليمان الداراني: "إن الخاسر من أبدى للناس صالحَ عمله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد".

عواقب معصية السر

إن الإصرار على معاصي الخلوات قد يؤدي إلى الاستهانة بها، ثم الاستحلال، ثم المجاهرة بها والدعوة إليها. كما أن الله تعالى قد يفضح العبد العاصي، كما فضح المنافقين بتصرفاتهم وفلتات ألسنتهم، رغم حرصهم على كتمان ما في قلوبهم.

  • عثمان بن عفان: قال عثمان بن عفان: "لو أن عبدًا دخل بيتًا في جوف بيتٍ، فأدمن هناك عملًا، أوشك الناس أن يتحدثوا به، وما من عامل يعمل إلا كساه الله تعالى رداءَ عمله، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ".

معاصي السر في العصر الحديث: تحديات وفتن

في هذا العصر، تيسرت سبل معاصي السر بشكل لم يسبق له مثيل. فالأجهزة الذكية التي لا غنى عنها أصبحت تعج بمعاصي الأسماع والأبصار، ومن أدمنها نزلت أدرانها على قلبه وأفسدته.

  • الأجهزة الذكية وكسر القيود: ألغت هذه الأجهزة الحدود وكسرت القيود، ولم يبق إلا خوف الله تعالى ومراقبته في السر.
  • التحذير من الانغماس في عالم الخيال: من أسلم نفسه لهذه الأجهزة، فقد نقلها من عالم الحقيقة إلى عالم الخيال، وفتح عليها أبوابًا من الشر لا يعلمها إلا الله تعالى.

الصبر في زمن الفتن: أجر عظيم

هذا الزمن بكل ما فيه من انفتاح لأبواب الشر وتيسير للفواحش، حقيق بقول الله تعالى: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94]. وحقيق بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «… فإن من ورائكم أيامًا الصبرُ فيهن مثلُ القبض على الجمر، للعامل فيهن مثلُ أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم، قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلًا منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين رجلًا منكم».

خاتمة: النجاة في التقوى

اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واخشوا نقمته وراقبوه، واجتنبوا نهيه واحذروه، واعلموا أنكم ملاقوه. فاللهَ الله في قلوبكم، لا تفسدوها بذنوب الخلوات، والله الله في إيمانكم، زكُّوه بصالح الأعمال، وجاهدوا وساوس الشيطان، وأكثروا التوبة والاستغفار، وإياكم واليأس والقنوط والإحباط، فمن جاهد نفسه هُدِيَ إلى توبة نصوح.

المصدر: موقع طريق الإسلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *