منهج القرآن الكريم في بيان الأحكام الفقهية: دراسة تفصيلية

منهج القرآن الكريم في بيان الأحكام الفقهية: دراسة تفصيلية

منهج القرآن الكريم في بيان الأحكام الفقهية: دراسة تفصيلية

يُعدّ فهم منهج القرآن الكريم في بيان الأحكام الفقهية ركيزة أساسية لفهم النصوص الشرعية واستنباط الأحكام منها بشكل صحيح. يتناول هذا المقال هذا المنهج بشكل مُفصل، مُستعرضًا أهم جوانبه ومراحله، مع التركيز على الحكمة من وراء كل منهج.

أولاً: القرآن الكريم: أصل التشريع الأول

لا يوجد حكم شرعي إلا وأصله في القرآن الكريم، وهو أصل التشريع الأول بلا منازع. يُؤكد هذا الاستقراء التام لأصول الشريعة وفروعها. يُبين ذلك قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]. كما قال الشيخ العثيمين رحمه الله: "فما من شيء يحتاج الناس إليه في معادهم ومعاشهم، إلا بيَّنه الله تعالى في كتابه، إما نصًّا أو إيماء، وإما منطوقًا، وإما مفهومًا".

يأتي بيان القرآن للأحكام على قسمين:

  • البيان التفصيلي: يشمل هذا القسم تفاصيل بعض الأحكام، مثل أصول العبادات، وأحكام المواريث، وكيفية الطلاق، والمحرمات من النساء، وكيفية اللعان، والكفارات. يُؤكد هذا البيان التفصيلي بآياتٍ كثيرةٍ كقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: 1]، وقوله: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: 119]، وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا﴾ [الأنعام: 114]. الحكمة من هذا البيان التفصيلي هو كون بعض الأحكام تعبدية لا مجال للعقل فيها، وبعضها أحكام معقولة لمصالح ثابتة لا تتغير بتغير الزمان.

  • البيان الإجمالي: يُورد القرآن الكريم بعض الأحكام بشكل إجمالي، مُشيرًا إليها أو مُلمحًا لها، لتُكمل السنة النبوية الشريفة تفاصيلها. مثال ذلك أحكام العبادات كالصلاة والزكاة والصوم والحج، وأحكام المعاملات. يُوضح ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44]. الحكمة من هذا الإجمال:

    • ترك تفصيل العبادات للنبي صلى الله عليه وسلم: لأن العبادات هي لب الدين وقوام الجماعات، وتحتاج إلى قدوة عملية وتطبيق عملي.
    • ترك تفصيل بعض الأحكام لعلماء الأمة: ليضعوا التفاصيل التي تُحقق أغراض الشريعة وأهدافها العامة، مع مراعاة مصالح الناس وتطور الأزمان واختلاف البيئات.

ثانياً: التصريح بأصول الواجبات والمحرمات

يتضح من منهج القرآن الكريم:

  1. التصريح بأصول الواجبات والمحرمات: يُسمي الشارع أصول الواجبات والمحرمات بأسمائها صراحةً، والتصريح أقوى طرق الدلالة.
  2. تبشيع المحرمات وتغليظ عقوبتها: يُبين القرآن الكريم بشاعة المحرمات، ويُغليظ عقوبتها، ويُحذر من اقترابها، كما هو واضح في آيات السرقة، وأكل مال اليتيم، والربا، ومنع الزكاة، والزنا، والقذف، وقتل النفس.

ثالثاً: دلالة القرآن الكريم على الأحكام:

تنقسم دلالة القرآن الكريم على الأحكام إلى:

  • النص القطعي الدلالة: لا يحتمل إلا معنى واحدًا، مثل الآيات التي تحتوي على تقادير أو أعداد محددة، كميراث الزوجة.
  • النص الظني الدلالة: يحتمل أكثر من معنى، مما يُسبب اختلافًا في الفهم والتفسير بين الفقهاء، مثل تحديد العدة للمطلقة.

رابعاً: عدم التزام وحدة الموضوع في بيان الأحكام

لم يتبع القرآن الكريم أسلوب الكتب المؤلفة في ذكر الأحكام المتعلقة بموضوع واحد في مكان واحد، بل جاءت آيات الأحكام مفرقة في مواضع مختلفة. الحكمة من هذا:

  • وحدة القرآن الشاملة: جميع آيات القرآن الكريم، مهما اختلفت أماكنها، تُشكل وحدة عامة لا يُصح تفريقها.
  • ملاءمة أسلوب القرآن الكريم لزمانه: كان القرآن الكريم دعوة وموعظة وتعليمًا وتشريعًا، وخُوطب به قوم لم يسبق لهم عهد بالتعليم والتشريع، فجاء بأسلوب مناسب لجمع هذه الأمور، مُراعيًا حال المخاطبين.

خامساً: ربط الأحكام الفقهية بالعقيدة

لم يذكر القرآن الكريم الأحكام بشكل جاف، بل ربطها بالمعاني التي تُخلق في النفوس الهيبة والمراقبة والارتياح، مدعوًا إلى امتثالها نظرًا لواجب الإيمان والخوف من عقاب الله وطمعًا في ثوابه. يُلاحظ هذا الربط واضحًا في سورة البقرة، حيث تكرر ذكر التقوى والأمر بها.

سادساً: التدرج في التشريع والبلاغ

نزلت آيات القرآن الكريم منجّمةً على مدار عشرين عامًا، وكان التدرج في فرض العبادات وتحريم المحرمات مراعاةً لأحوال الناس ورحمةً بهم. والتدرج في البلاغ والدعوة سيظل موجودًا، خاصة في أزمنة انتشار الجهل وغربة الإسلام، بما يتناسب مع قابلية الناس لما يُدعون إليه، كما بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية.

نسأل الله تعالى أن ينفع بهذا المقال.

المصدر: شبكة الألوكة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *